كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر إنآ أرسلنا عليهم ريحًا صرصرًا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر فكيف كان عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}..
وهذه هي الحلقة الثانية، أو المشهد الثاني من مشاهد التعذيب العنيف؛ والمصرع الذي يقف عليه بعد وقفته على مصرع قوم نوح. أول المهلكين.
يبدؤه بالإخبار عن تكذيب عاد. وقبل أن يكمل الآية يسأل سؤال التعجيب والتهويل: {فكيف كان عذابي ونذر}.. كيف كان بعد تكذيب عاد؟ ثم يجيب..
كان كما يصفه ذلك الوصف الخاطف الرعيب: {إنآ أرسلنا عليهم ريحًا صرصرًا في يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر}.. والريح الصرصر: الباردة العنيفة. وجرس اللفظ يصور نوع الريح. والنحس: الشؤم. وأي نحس يصيب قومًا أشد مما أصاب عاد. والريح تنزعهم وتجذبهم وتحطمهم. فتدعهم كأنهم أعجاز نخل مهشمة مقلوعة من قعورها؟!
والمشهد مفزع مخيف، وعاصف عنيف. والريح التي أرسلت على عاد (هي من جند الله) وهي قوة من قوى هذا الكون، من خلق الله، تسير وفق الناموس الكوني الذي اختاره؛ وهو يسلطها على من يشاء، بينما هي ماضية في طريقها مع ذلك الناموس، بلا تعارض بين خط سيرها الكوني، وأدائها لما تؤمر به وفق مشيئة الله. صاحب الأمر وصاحب الناموس: {فكيف كان عذابي ونذر}..
يكررها بعد عرض المشهد. والمشهد هو الجواب!
ثم يختم الحلقة بالتعقيب المكرر في السورة وفق نسقها الخاص: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}..
ثم يمضي إلى المشهد التالي في السياق وفي التاريخ:
{كذبت ثمود بالنذر فقالوا أبشرا منا واحدًا نتبعه إنآ إذًا لفي ضلال وسعر أألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر سيعلمون غدا من الكذاب الأشر إنا مرسلو الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر فكيف كان عذابي ونذر إنآ أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}..
وثمود كانت القبيلة التي خلفت عادًا في القوة والتمكين في جزيرة العرب.. كانت عاد في الجنوب كانت ثمود في الشمال. وكذبت ثمود بالنذر كما كذبت عاد، غير معتبرة بمصرعها المشهور المعلوم في أنحاء الجزيرة.
{فقالوا أبشرًا منا واحدًا نتبعه إنآ إذًا لفي ضلال وسعر أألقي الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب أشر}..
وهي الشبهة المكرورة التي تحيك في صدور المكذبين جيلًا بعد جيل: {أألقي الذكر عليه من بيننا}؟ كما أنها هي الكبرياء الجوفاء التي لا تنظر إلى حقيقة الدعوة، إنما تنظر إلى شخص الداعية: {أبشرًا منا واحدًا نتبعه}!
وماذا في أن يختار الله واحدًا من عباده.. والله أعلم حيث يجعل رسالته.. فيلقي عليه الذكر- أي الوحي وما يحمله من توجيهات للتذكر والتدبر- ماذا في هذا الاختيار لعبد من عباده يعلم منه تهيؤه واستعداده. وهو خالق الخلق. وهو منزل الذكر؟ إنها شبهة واهية لا تقوم إلا في النفوس المنحرفة. النفوس التي لا تريد أن تنظر في الدعوى لترى مقدار ما فيها من الحق والصدق؛ ولكن إلى الداعية فتستكبر عن اتباع فرد من البشر، مخافة أن يكون في اتباعها له إيثار وله تعظيم. وهي تستكبر عن الإذعان والتسليم.
ومن ثم يقولون لأنفسهم: {أبشرًا منا واحدًا نتبعه إنا إذًا لفي ضلال وسعر}.. أي لو وقع منا هذا الأمر المستنكر! وأعجب شيء أن يصفوا أنفسهم بالضلال لو اتبعوا الهدى! وأن يحسبوا أنفسهم في سعر- لا في سعير واحد- إذا هم فاءوا إلى ظلال الإيمان!
ومن ثم يتهمون رسولهم الذي اختاره الله ليقودهم في طريق الحق والقصد. يتهمونه بالكذب الطمع: {بل هو كذاب أشر}.. كذاب لم يلق عليه الذكر. أشر: شديد الطمع في اختصاص نفسه بالمكانة! وهو الاتهام الذي يواجه بكل داعية. اتهامه بأنه يتخذ الدعوة ستارًا لتحقيق مآرب ومصالح. وهي دعوى المطموسين الذين لا يدركون دوافع النفوس ومحركات القلوب.
وبينما يجري السياق على أسلوب الحكاية لقصة غبرت في التاريخ.. يلتفت فجأة وكأنما الأمر حاضر. والأحداث جارية. فيتحدث عما سيكون. ويهدد بهذا الذي سيكون:
{سيعلمون غدًا من الكذاب الأشر}!
وهذه إحدى طرق العرض القرآنية للقصص. وهي طريقة تنفخ روح الحياة الواقعية في القصة، وتحيلها من حكاية تحكى، إلى واقعة تعرض على الأنظار، يترقب النظارة أحداثها الآن، ويرتقبونها في مقبل الزمان!
{سيعلمون غدًا من الكذاب الأشر}.. وسيكشف لهم الغد عن الحقيقة. ولن يكونوا بمنجاة من وقع هذه الحقيقة. فستكشف عن البلاء المدمر للكذاب الأشر!
{إنا مرسلو الناقة فتنة لهم فارتقبهم واصطبر ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر}..
ويقف القارئ يترقب ما سيقع، عندما يرسل الله الناقة فتنة لهم، وامتحانًا مميزًا لحقيقتهم. ويقف الرسول- رسولهم عليه السلام- مرتقبًا ما سيقع، مؤتمرًا بأمر ربه في الاصطبار عليهم حتى تقع الفتنة ويتم الامتحان. ومعه التعليمات.. أنا الماء في القبيلة قسمة بينهم وبين الناقة- ولا بد أنها كانت ناقة خاصة ذات خصائص معينة تجعلها آية وعلامة- فيوم لها ويوم لهم- تحضر يومها ويحضرون يومهم. وتنال شربها وينالون شربهم.
ثم يعود السياق إلى أسلوب الحكاية. فيقص ما كان بعد ذلك منهم:
{فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر}..
وصاحبهم هو أحد الرهط المفسدين في المدينة، الذين قال عنهم في سورة النمل: {وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون} وهو الذي قال عنه في سورة الشمس: {إذا انبعث أشقاها} وقيل: إنه تعاطى الخمر فسكر ليصير جريئًا على الفعلة التي هو مقدم عليها. وهي عقر الناقة التي أرسلها الله آية لهم؛ وحذرهم رسولهم أن يمسوها بسوء فيأخذهم عذاب أليم.. {فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر} وتمت الفتنة ووقع البلاء.
{فكيف كان عذابي ونذر}..
وهو سؤال التعجيب والتهويل. قبل ذكر ما حل من العذاب بعد النذير:
{إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة فكانوا كهشيم المحتظر}... ولا يفصل القرآن هذه الصيحة. وإن كانت في موضع آخر في سورة (فصلت) توصف بأنها صاعقة: {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} وقد تكون كلمة صاعقة وصفًا للصيحة. فهي صيحة صاعقة. وقد تكون تعبيرًا عن حقيقتها. فتكون الصيحة والصاعقة شيئًا واحدًا. وقد تكون الصيحة هي صوت الصاعقة. أو تكون الصاعقة أثرًا من آثار الصيحة التي لا ندري من صاحبها.
وعلى أية حال فقد أرسلت على القوم صيحة واحدة، ففعلت بهم ما فعلت، مما جعلهم {كهشيم المحتظر}.. والمحتظر صانع الحظيرة. وهو يصنعها من أعواد جافة. فهم صاروا كالأعواد الجافة حين تيبس وتتحطم وتصبح هشيمًا. أو أن المحتظر يجمع لماشيته هشيمًا تأكله من الأعواد الجافة والعشب الناشف. وقد صار القوم كهذا الهشيم بعد الصيحة الواحدة!
وهو مشهد مفجع مفزع. يعرض ردًا على التعالى والتكبر. فإذا المتعالون المتكبرون هشيم. وهشيم مهين كهشيم المحتظر!
وأمام هذا المشهد العنيف المخيف، يرد قلوبهم إلى القرآن ليتذكروا ويتدبروا. وهو ميسر للتذكر والتدبر:
{ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}..
ويسدل الستار على الهشيم المهين. وفي العين منه مشهد. وفي القلب منه أثر. والقرآن يدعو من يذكر ويتفكر..
ثم يرفع الستار عن حلقة جديدة تالية- بعد ذلك- في التاريخ، في محيط الجزيرة العربية كذلك:
{كذبت قوم لوط بالنذر إنآ أرسلنا عليهم حاصبًا إلا آل لوط نجيناهم بسحر نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنآ أعينهم فذوقوا عذابي ونذر ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر فذوقوا عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}..
وقصة قوم لوط وردت مفصلة في مواضع أخرى. والمقصود بعرضها هنا ليس هو تفصيلاتها، إنما هي العبرة من عاقبة التكذيب، والأخذ الأليم الشديد. من ثم تبدأ بذكر ما وقع منهم من تكذيب بالنذر: {كذبت قوم لوط بالنذر}.. وعلى إثر هذه الإشارة يصف ما نزل بهم من النكال:
{إنا أرسلنا عليهم حاصبًا إلا آل لوط نجيناهم بسحر نعمة من عندنا كذلك نجزي من شكر}.
والحاصب: الريح تحمل الحجارة. وفي مواضع أخرى ورد أنه أرسل إليهم حجارة من طين ولفظة الحاصب ذات جرس كأنه وقع الحجارة، وفيه شدة وعنف تناسب جو المشهد. ولم ينج إلا آل لوط- إلا امرأته- نعمة من عند الله جزاء إيمانهم وشكرهم.. {كذلك نجزي من شكر}. فننجيه وننعم عليه في وسط المهالك والمخاوف.
والآن وقد عرض القصة من طرفيها: طرف التكذيب وطرف الأخذ الشديد. فإنه يعود لشيء من التفصيل فيما وقع بين الطرفين.. وهذه إحدى طرق العرض القرآنية للقصة حين يراد إبراز إيحاءات معينة من إيرادها في هذا النسق. هذه التفصيلات هي: {ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنذر ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم فذوقوا عذابي ونذر ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر}..
وطالما أنذر لوط قومه عاقبة المنكر الشاذ الذي كانوا يأتونه، فتماروا بالنذر، وشكوا فيها وارتابوا، وتبادلوا الشك والارتياب فيما بينهم وتداولوه، وجادلوا نبيهم فيه. وبلغ منهم الفجور والاستهتار أن يراودوه هو نفسه عن ضيفه- من الملائكة- وقد حسبوهم غلمانًا صباحًا فهاج سعارهم الشاذ الملوث القذر! وساوروا لوطًا يريدون الاعتداء المنكر على ضيوفه، غير محتشمين ولا مستحيين، ولا متحرجين من انتهاك حرمة نبيهم الذي حذرهم عاقبة هذا الشذوذ القذر المريض.
عندئذ تدخلت يد القدرة، وتحرك الملائكة لأداء ما كلفوه وجاءوا من أجله: {فطمسنا أعينهم} فلم يعودوا يرون شيئًا ولا أحدًا؛ ولم يعودوا يقدرون على مساورة لوط ولا الإمساك بضيفه! والإشارة إلى طمس أعينهم لا ترد إلا في هذا الموضع بهذا الوضوح. ففي موضع آخر ورد: {قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك} فزاد هنا ذكر الحالة التي صارت تمنعهم من أن يصلوا إليه. وهي انطماس العيون!
وبينما السياق يجري مجرى الحكاية، إذا به حاضر مشهود، وإذا الخطاب يوجه إلى المعذبين: {فذوقوا عذابي ونذر}.. فهذا هو العذاب الذي حذرتم منه، وهذه هي النذر التي تماريتم فيها!
وكان طمس العيون في المساء.. في انتظار الصباح الذي قدره الله لأخذهم جميعًا: